||
د/ خديجة الصبان :
مفهوم الجودة، ـ كما نعلم جميعًا ـ من مفاهيم الحياة المعاصِرة. ولا بدَّ من القول هنا أنَّ المُعاصَرة لا ينبغي أن تكون ذوبانًا في الراهن، وانسلاخًا من الجذور؛ إذْ لا معاصرة حقيقية بلا جذور ثقافية واجتماعية. ومن ذلك المنطلق نعود إلى تراث العربية الأدبي، نستلهمه شيئًا ممَّا حفل به من صور ومبادئ ذلك المفهوم المعاصر(الجودة). ونبدأ بمبدأ وضع الشخص المناسب في المكان المناسب؛ فهو من أكثر المبادئ ارتباطًا بمفهوم إدارة الجودة؛ ولذا نجد المؤسسات التي تسعى إلى تحقيق أعلى مستويات النجاح والتقدم، تحرص الحِرص كلَّه على تطبيقه بصفته إحدى أهمِّ الوسائل التي تقود إلى تحقيق الأهداف. والسؤال الذي قد يتبادر إلى أذهان البعض بعد قراءة هذه المقدمة، هو: ما علاقة ما جاء بها من ذكرٍ لمفهوم الجودة ومبادئه بِتُراث العربية؟ وهل يمكن أنْ يكون أولئك الأقوام ومنذ تلك الأزمان، قد تفتَّقَـتْ أذهانُهم عن تلك المفاهيم التي يُظنُّ ظنًّا يوشِكُ أنْ يبلغَ درجة اليقين، أنَّها من نواتج حضارة القرن العشرين؟! ويأتي الجواب: أجَلْ، لقد عَرَفَ أولئك البُداة، ومنذ تلك الحِقَب، مفهوم ومبادئ الجودة ووسائل تحسين الأداء، بل وحضُّوا على التَّمسُّكِ بها.
وذلك ما يكشفُ عنه ديوانهم وأمثالهم. ومنها مثلهم القائل” أعطِ القَوْسَ باريها”، أيِ اِسْنِدِ العمل إلى مَنْ يُحْسِنُه. وقال شاعرهم:
يا بارِيَ القَوْسِ بَرْيًا لستَ تُحْكِمُهُ لا تَظْلِمِ القَوْسَ، أعْطِ القوسَ بارِيها
نحن أمام بيتٍ يكشفُ، صياغةً وانتقاءً للألفاظ، عن حِرْصٍ شديد على ترسيخ مفهوم الإتقان، وأنَّه لازِمٌ من لوازم التَّصَدِّي للأداء. فهل هناك ما هو أقسى من الوصف بالظُّلم ـ وأصله في اللغة وضْعُ الشَّيء في غير موضعه ـ، لا تظلم القوس بأنْ تتصدَّى لِبريها، وأنتَ لمْ تبلُغْ بعدُ مرحلة الأهليَّة لتعاطي ذلك الفعل! والحلُّ المطروح ينحصرُ في خِيارٍ أوْحَد: التَّنَحِّي والاستقالة فَيَعْـقُبها تسليم المَهَمَّة إلى مَنْ يُحسِنُ القيامَ بها.
وصورة أخرى لهذا المبدأ تتعلَّق بِسِمات المُمَثِّلِينَ والمُفَوَّضِين المُفاوِضِين، والتمثيل على جميع المُستويات (مستوى علاقات الدول، والمؤسسات، والأفراد) يتطلَّبُ مواصفاتٍ خاصَّة؛ فَمَنْ يُعقدُ العزمُ على انتدابه للتمثيل على أيٍّ من المستويات المذكورة، لا بُدَّ أنْ يكونَ مُزوَّدًا بنوعين منَ الزَّاد: سِمات ذاتية تتحَلَّى بها شخصيّته، والنّوع الآخر: تعليماتٌ واستراتيجيات وأهداف واضحة مُحدَّدة، مِنْ قِبَل المُرْسِل. وفَـقْـدُ أيٍّ من النوعين يَنتُجُ عنه فشلُ مَهَمَّة المُرْسَل التي انْتُدِبَ لإنجازها. ذلك ما يضعُ أيدينا عليه شاعرٌ من مُخضرَمِي الدولتين (الأُمَوِيَّة والعبَّاسيَّة)، هو أبو عطاء السِّنْدِي، حيث يقول:
إذا ارسلْتَ في أَمْرٍ رَسُولًا فَأَفْـهِـمْهُ وأَرْسِلْهُ أدِيبا
فَإنْ ضَيَّعْتَ ذاكَ، فَلا تَلُمْهُ على أنْ لمْ يَكُنْ عَـلِمَ الغُـيُوبا
الأديب: هو الإنسان الظَّريف ذو الرَّأي الحَصِيف الذي يُحْسِنُ تناول الأمور، وتَقليبِها على وُجوهِها، وإفهامُهُ تزويدهُ بِالمُراد والأهداف، وما يُرْمَي إليه ويُتَطلَّعُ إلى تحقيقه من وراء المباحثات والمفاوضات. قال المتنبيِّ مبيَّنًا دورها في تَجنيبِ الدُّخولِ في الحروب والتَّقاتل:
الرَّأْيُ قبلَ شَجاعةِ الشُّجْعانِ هُوَ أوَّلٌ، وهي المَحِلَّ الثَّاني
فإذا هُما اجْتَمَعا لِنَفسٍ مِرَّةٍ بَلَغَتْ مِنْ العَلْياءِ كُلَّ مَكانِ
وَلُرُبَّما طَعَنَ الفَتى أَقْرانَهُ بالرَّأيِ قبلَ تَطاعُنِ الأقرانِ
إذن، ينبغي أنْ يُقدَّمَ صاحبُ ذلك الرأيُ وتلك المهارات، لحلِّ المُشكلات واستقامة العِلاقات، وتكونَ لرأيه المنزلة العُليا، وليس ذلك وحَسْب، بل إنَّ تَغْـيِيبَهُ يَهْبِطُ بالإنسان إلى مستوًى أدنى من مستوى المُفْترِسِ من الحيوان:
لَولا العُقولُ لَكانَ أَدْنى ضَيغَمٍ أَدْنى إِلى شَرَفٍ مِنَ الإِنسانِ
وبعد فما زالَ هناك الكثير مِمَّا جاء عنهم بخصوص ذلك المفهوم (الجودة) وغيره، ولولا محدودية المساحة لكانَ بينَ أيديكم المزيد منه.
جميع الحقوق محفوظه لصحيفة المصداقية الالكترونية 2020
سلمتِ دكتورة خديجة على المقال الجميل ، والأخذ بذلك وحُسن الاختيار هو النجاح والتميُّز الحقيقي .
دكتورتي الفاضلة الا ينطبق الاتقان على الجودة ام هو ارفع منه واعلى ؟؟
ابدعتي دكتورتنا الغاليه
دكتورتنا الفاضلة ماشاء الله ابدعتي كعادتك
هل متاح الاشتراك فى النشر طرفكم دكتور احصاء ومحاضر اقتصاد وهذا اخر مقال لى فى السعودية
https://www.economy-today.com/%D8%A7%D9%84%D8%B2%D8%B1%D8%A7%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D9%86%D9%85%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF/