||

الظَّرافة والفُكاهة تُظلِّلُ حياتهم

28 يناير، 2021

د/ خديجة الصبان :

حديثنا اليوم يحملُ جُرْعة إشاعةٍ لروح المرح والفكاهة؛ إذْ يعرض عددًا من المواقف الطَّريفة، حملتْها إلينا مجموعة من كتب النوادر والطرائف في تراثنا الأدبي. وقد ضمَّتْ تلك الكتب مواقف لشعراء وخلفاء، بل وفقهاء وقضاة ووعَّاظ وأئمة مساجد وغيرهم، على امتدادِ العُصور العربية الإسلامية.

وقبل تقديم الباقة التي اخترناها، نعرض شيئًا ممَّا سطَّره عبد الفتاح مرسي ـ في مجلة أمواج الإسكندرية الإليكترونية ــ عن أهمية الفكاهة ودورها ومَحْمُولاتها، قال: ” الفكاهة فنٌّ لا يُجيده إلا القلائل من الناس. والفكاهةُ فلسفة لأنَّها يَجبُ أن تكون تعبيرًا عن موقف أو نظرة أو فكرة نتوسَّلُ بها بلطفٍ ودِقَّة، باللَّمْحِ دون الإطالة، بالتلميح دون التصريح…“.

والعرب قد عرفوا هذا الفن منذ حياة الرسول الكريم، حيث يُروى أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لحنظلة: “…يا حنظلةُ، ساعةٌ وساعةٌ“، أىْ راوِحْ في أوقاتك بين الجِدِّ والتَّرفيه؛ ذلك أنَّ النفسَ تَمَلَّ من الاستمرار في الجِدِّ، وترتاحُ بشيء من المُفاكهة واللهو.
وبعد أنْ عرفنا أهمية الفكاهة ودورها الترفيهي والإبلاغي، ننتقل إلى عرض ما اخترناه لكم من مواقفها. ونبدؤها بموقفِ طلبِ فتوى من الإمام أبي حنيفة، فقد روي أنًّ رجلًا سأله: إذا نزعتُ ثيابي، ودخلتُ النهر أغتسل، أَفَـإلى القِبْلة أتوجّهُ أمْ إلى غيرها؟ أجابه أبو حنيفة: “اجعلْ وجهَك جهةَ ثيابك لئلّا تُسرق “. ونلاحظ على ردِّ أبي حنيفة أنَّه مع ظرفه يَتضمَّنُ تلميحًا إلى ما في سؤال المُسْتَفْتِي من التَّنطّع والإيغال.

  وروي عن عليٍّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أنَّه نظرَ إلى رجلٍ يَجُرُّ ذيله على الأرض لطول ثيابه، فقال له علِّي: “يا هذا، قَصِّرْ مِنْ هذا؛ فإنّه أبقى وأنقى وأتقى “. ويلفتنا في هذا التوجيه أنه جاء رفيقًا خاليًا من التَّسفِيه والتَّأثيم، بل فيه إثبات التَّقوى للرجل والنقاء لثوبه، وذلك ما يفيده استخدامه ــ رضي الله عنه ــ لصيغ التفضيل: “أبقى، أنقى، أتقى”. كما نلحظ أنّه بدأ بأثر التَّقصير على إطالة عُمُرِ الثوب. 

وعن عمر بن الخطاب أنَّه ـ رضي الله عنه ـ رأى أعرابيًّا يُصلِّي صلاةً خفيفة، فلمّا قضاها توَّجَّه بالدعاء: اللهمَّ زوِّجْني من الحُور العِين. فقال له عمر: “لقد أسأتَ النَّقْـد (أيْ قلَّلتَ المهر)، وأعظمتَ الخِطْبة“. وروي أنَّ أحد الأعراب سألَ آخر عن اسمه، فقال: اسمي بحر، ثم سأله: ابنُ مَنْ؟ أجابَ: ابنُ فيَّاض، ما كنيتُكَ؟ أجاب: أبو النَّدى، فقال له: لا ينبغي لأحدٍ لقاؤك إلَّا في زورق.

وروي عن الخليفة، المَهْديِّ (والد هارونَ الرشيد) أنَّه قال لحاجبه يومًا نِصْفَ النهار: اُخْرُجْ فانظرْ مَنْ بالباب، فخرج، فإذا شخصٌ واقف، فسأله الحاجب: ألكَ حاجة؟ أجابه: لا أخبرُ بها أبدًا غيرَ أمير المؤمنين، فأخبرَ الحاجب المهديَّ، فقال: اِيذَنْ له، وَمُرْهُ بالتخفيف،

فخرج إليه يقول: أُدخلْ وخفِّفْ، فدخل وسلَّم بالخلافة، ثمّ قال: يا أمير المؤمنين، إنَّا قد أُمِرْنا بالتخفيف:

      فإنْ شِئْتَ خفَّفْنا وكنّا كَرِيشةٍ        متى تُلقِها الأنفاسُ، في الجَوِّ تذهبُ

      وإنْ شئتَ ثَقَّـلْنا فَـكُنّا كصخرةٍ         متى تُلقِها في حَوْمَةِ البحر تَرْسُبُ

      وإنْ شئتَ سَلَّمنا فكُنَّا كَـراكِبٍ          متى يَقـضِ حقًّا مِنْ سلامٍ يُغـَـرِّبُ

 فضحك المهديُّ وقال: بل تُكرَمُ وتُقضى حاجتُك، فقضى حاجته ووصله بِعَشَرةِ آلاف درهم”. وذلك الموقف الطريف، يكشف عن ذكاء الشاعر وحكمته وظرافته، وهي ما مَكَّنتْ له تَخَطِّي العقباتِ وبُلُوغِ مراده.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

رأي المصداقية

1 يناير، 2021
رآي المصداقية

  كان حلما يراودنا منذ...

كتّاب المصداقية

23 أكتوبر، 2025
نصفك الأسود

ضيف الله نافع الحربي  ما...

15 أكتوبر، 2025
من جدة إلى كأس العالم

ضيف الله نافع الحربي  من...

9 أكتوبر، 2025
أخطر العقود “أنا وأنت معًا”

ضيف الله نافع الحربي  رابط...

2 أكتوبر، 2025
اقرأ لتكبر

ضيف الله نافع الحربي  لا...

أوراق أدبية