||

في أفياء تراث العربية

2 يناير، 2021

الدكتورة خديجة الصبان : 

تراث اللغة العربية الأدبي يُثْرَى ـ ولا ريبَ ـ مَنْ يَتفيَّؤ ظلاله.
وفي هذه الزاوية نسعى لتقديم ما يكشف عن أسباب حُكمنا ذاك. أمَّا في هذا اللقاء، فنستحضرُ منه مجموعة من النصوص الشعرية تتناول موضوعًا، نجدُ أنَّ عالَمُنا ومجتمعاتنا بحاجة شديدة لتلقِّيها والاستمداد منها استمدادًا يُغْـرِي ويُثْري، والعملُ به يَملأ الحياة رحمة وطِيبًا يدفعُ عنها كثيرًا من أسباب المعاناة والشقاء التي باتتْ تَتَسَلَّلُ إلى كثير من جوانب حياة الإنسان.
ومن تلك الأسباب إطلاقُ العَنان لِلِّسان، وذلك واقعٌ بكثرةٍ صادِمة مخيفة، بلغتْ في مواقع التَّواصل الاجتماعي وغيرها، حَدًّا لا مزيدَ عليه؛ حيثُ الخوضُ في كلِّ أمرٍ وشأن، وحيثُ الوقوعُ في أعراض الناس وكشف خصوصياتهم، والإزراء بهم وازدرائهم، لمجرد الاختلاف في الرأي معهم.
والنَّاظر في التُّراث الأدبي للعربية، يَجِدُ كمًّا هائلًا من نصوص التحذير من ذلك الإطلاق (إطلاق العنان للسان)، وما يؤدِّي إليه. وواقعنا المُعاش بحاجة ماسَّة لتلقِّيها وبَثَّها بين النّاس؛ توصيَةً وتذكيرًا. وفيما يلي مجموعة مختارة من النصوص الشعرية الواردة فيه. قال الشاعر:

وَزِنِ الكلامَ إذا نَطَقتَ ولا تَكُنْ         ثَرْثارَةً في كلِّ نادٍ تَخْطُبُ
واحفظْ لِسانَكَ واحْتَرِزْ مِنْ لَفْظِهِ      فالمَرْءُ يَسْلَمُ باللِّسانِ ويَعْطُبُ
وتلك الوصية، جاءت مُتَمَثِّلة بالتحذير الشَّديد في قوله تعالى: ﴿مَّا یَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَیۡهِ رَقِیبٌ عَتِیدࣱ﴾.
وشاعر آخر يتحدث عن العلاقة التَّلازُمِيَّة بينَ ما يَنْطِقُّ به الإنسانُ، وبينَ عقله، حيث يقول:
وَزِنِ الكَــــلامَ اِذا نَطَقـتَ فَإِنَّمــــا     يُبـْـدِي عُـقُولَ ذَوِي العُقولِ المَنْطِقُ
المراد بـ “المَنْطِق” في البيت: الكلام، والمَرءُ مدعوٌّ لأنْ يُفَكِّر فيما سيقول قبل أنْ يقوله. وفي المعنى نفسه تقريبًا، جاءَ قول الشاعر:
وفي الصَّمْتِ سِتْرٌ لِلْعَيِيِّ،      وإِنَّما صَحِيفَةُ لُبِّ المَرْءِ أنْ يَتَكَـلَّما
“العِيُّ”: عَجْزُ المَرْءِ عن بيان مُراده، وإبلاغ حُجَّته، ومَنْ كان كذلك يُسمَّى” عَيِيًّا”. والِعِيُّ يكون ناتِجًا إمَّا عن جهلٍ، أو خللٍ في المنطق، أو في طرائق التفكير، أو عن فقرٍ وافتقادٍ لمهارات الكتابة وغيرها من المهارات اللغوية. وهذا أصبحَ شائعًا جدًا في زمَننا حتى صارَ مِنْ سِماتِ الكَثْرَة الكاثِرة من أهله. ومن أسبابه اعتياد الكتابة بالعاميَّات وقراءة ما يُكتَب بها. و”اللُّبُّ”: العَقل. وهو مِنْ كلِّ شيءٍ: خالِصهُ وخِيارُهُ، ونَفْسُهُ وحقيقتُه. واللَّبيبُ: ذو اللُّب.
ومِمَّا يَستدعي التَّعجُّب ـ عند أحد الشعراء ـ مسارعةُ مَنْ لا يمتلكُ الأدواتِ ـ ومنها ما ذكرناه آنفًا ـ إلى الخوض والإدلاء، وتَوَقُّفُ المُمْتلكِ لها القادرِ عليها، يقول:

عَجِبْتُ لإِدْلالِ العَيِيِّ بِنَفْـسِهِ    وصَمْتِ الذي قد كانَ بالقَوْلِ أعْـلَما
وما أرى ذلك مِنْ المُمْتَلِكِ إلّا تَرَفُّعًا وامتناعًا عن أنْ يضع نفسه في موضع واحد وذاك العَيِيِّ.
والصَّمْتُ، حالة كونه اختيارًا لا اضطرارًا ناشئًا عن عِيٍّ، محمودٌ؛ إذْ هو من وسائل السّلامة:
إذا لمْ يكنْ صَمْتُ الفتى عن ندامةٍ     وعِي ٍ، فإنَّ الصَّمتَ أَوْلى وأسْلَمُ
وفي الشطر الأول من البيت، حَثٌّ ضِمْنيٌّ على أنْ يشتغل المرءُ بما يُنمَّي قُدراته في مجال القول، بحيثُ يُصبحُ قادرًا على الإدلاء الصائب برأيه، ومنْ ذلك تنميته لِمهارات الكتابة والقراءة الناقدة ومهارات التفكير لديه.
والصَّمتُ تَرَفُّعًا ممدوحٌ محمود؛ لِنتائجه المُعْجِبَة، والأمور تُقاسُ بنتائجها، قال الشاعر:
والصَّمْتُ عنْ جاهلٍ أوْ أحَمْقٍ شَرَفٌ    وفيه أيضًا لِصَوْنِ العِـرْضِ مِفْتاحُ

وبعد، فهذا، غيضٌ من فيض، ومازالَ في جُعبة تُّراث العربية الأدبيِّ الكثيرُ الكثيرُ في ذلك الشَّأن؛ مع تناولٍ له من جوانب أخرى، وفي ذلك دلالةٌ على أنَّه كان عند القوم عندهم شأنًا ذا خطورة بالغة، خطورة على الفرد مُطلِقِ الكلام على عواهنه، إثمًا ومُحاسبة تُفضِي إلى وقوعه في شديد العذاب يومَ الحِساب، وخطورته على المجتمع إساءة إلى الناس، ومعاناة وتَفْرِقة وفَصْمًا للعُرَى والوَشائج.

ونعرض بعضًا مِمَّا جاء منه، اللقاء القادم ــ إنْ شاء الله ــ، وسيكون مخصَّصًا للمقولات النَّثرية.

رد واحد على “في أفياء تراث العربية”

  1. يقول محمد الرايقي:

    مقال رائع ومميز
    لدكتورتنا القديرة خديجة الصبان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

رأي المصداقية

1 يناير، 2021
رآي المصداقية

  كان حلما يراودنا منذ...

كتّاب المصداقية

23 أكتوبر، 2025
نصفك الأسود

ضيف الله نافع الحربي  ما...

15 أكتوبر، 2025
من جدة إلى كأس العالم

ضيف الله نافع الحربي  من...

9 أكتوبر، 2025
أخطر العقود “أنا وأنت معًا”

ضيف الله نافع الحربي  رابط...

2 أكتوبر، 2025
اقرأ لتكبر

ضيف الله نافع الحربي  لا...

أوراق أدبية