||
د.شيخة الحربي
@BNT_HAMED_A
في لحظةٍ تفيض بالمعنى أكثر مما تفيض بالكلمات، أجاب الإعلامي وصانع الصورة زياد الحجيلي حين سُئل: لماذا لم تكن في الصفوف الأمامية في الحفل؟
فقال: ( نحن نكون في الخلف لِإظهار من هم في المقدّمة ) عبارة قصيرة لكنها تحمل فلسفة إعلامية وقيادية عميقة، تختزل مفهوم الخدمة الصامتة والتأثير غير المرئي الذي يصنع الواجهة دون أن يطلبها.
هذه العبارة تعيد تعريف موقع القوة في العمل العام والإعلامي، فأن تكون في الخلف لا يعني أنك غائب، بل أنك واعٍ لدورك الحقيقي في إدارة الصورة وصناعة المعنى، فالإعلامي المحترف لا يبحث عن عدسةٍ تلتقطه، بل يوجّه العدسة لالتقاط الآخرين، إنها ذهنية القائد الذي يدرك أن الضوء حين يوزّع بعدل، يخلق مشهداً أكثر توازناً وجمالاً.
لكن وراء العبارة افتراضان يستحقان الوقوف عندهما، الأول أن الظهور في الصفوف الأولى ليس مقياساً للأهمية، والثاني أن التأثير لا يحتاج إلى ضجيج، كلا الافتراضين صحيحان بشرط أن يُمارسا بوعيٍ ومسؤولية.
فالتواري من دون هدف قد يكون ضعفاً، أما التراجع المقصود لخدمة الصورة الكاملة فهو حكمة، هنا يختلف الغائب عن المتواري، ويظهر نضج صاحب القرار الذي يختار مكانه بدلاً من أن يُزاح.
من زاويةٍ أخرى، تحمل العبارة رسالةً عن أخلاقيات المهنة والقيادة: أن النجاح لا يُقاس بمقدار الظهور بل بمدى تمكين الآخرين، من يجلس في الخلف ليتيح للمقدمة أن تلمع، يمارس شكلاً راقياً من العطاء غير المرئي، وهو جوهر الإعلام المسؤول والقيادة الواعية.
وربما تكمن قيمتها الأعمق في أنها تذكّرنا بأن المجتمع بحاجةٍ إلى من يعمل في الظلّ بقدر حاجته إلى من يعتلي المنصات، فالمبدع الحقيقي هو من يزرع الضوء دون أن يقف تحته، كل احتفال ناجح، وكل ظهورٍ متألق، يقف خلفه صفّ كامل من العقول الهادئة التي آثرت البقاء في الخلف لتُبرز المشهد الأمامي بأجمل صورة.
عبارة (ز.م) ليست تبريراً للغياب، بل إعلان وعيٍ بموقع الدور، إنها درسٌ في التواضع المهني، وفي إدراك أن القيمة الحقيقية ليست في المقعد، بل في الأثر، فكم من «خلف» كان هو البداية الحقيقية لكل «مقدمة» يراها الناس.
جميع الحقوق محفوظه لصحيفة المصداقية الالكترونية 2020