||
بقلم: ماجد عبدالله السريحي
باحث في الإعلام والاتصال المؤسسي
@majedstopuqu
من القِربة إلى الريادة
في ذاكرة جدة صورة لا تُنسى:
السقّا يجوب الأزقة بقِربته الجلدية، يحمل الماء على كتفيه ويمشي بثقة بين البيوت، بينما في طرف المدينة تعلو صفارات الكنداسة الأولى، تحاول أن تروّض البحر وتحوّل ملوحته إلى حياة.
هكذا بدأت القصة؛ بين جهد الإنسان وبزوغ التقنية، بين قِربةٍ تُملأ بيدٍ متعبة ومحطةٍ بدائية تنفث أول بخارٍ للعذوبة.
ومن تلك اللحظة، لم تتوقف جدة عن الحلم… مدينة بدأت بالعطش، وانتهت بالريادة.
الكنداسة.. ذاكرة مدينة تعلمت من البحر
كانت “الكنداسة” أول تجربة سعودية لتحلية مياه البحر، بسيطة في شكلها، عظيمة في رمزها.
محطة صغيرة تعمل بالفحم، لكنها كانت نقطة التحوّل في علاقة جدة بالماء، وشرارة وعيٍ علميّ مبكر بأن المستقبل يصنعه الابتكار لا الانتظار.
واليوم، بعد قرنٍ من الزمن، أصبحت المملكة — وفي قلبها جدة — تملك أكبر منظومة تحلية مياه في العالم، تنتج أكثر من 11 مليون متر مكعب يوميًا، وتعمل بطاقةٍ متجددةٍ صديقةٍ للبيئة.
رحلة تحوّلت فيها جدة من مدينة تبحث عن الماء إلى مدينةٍ تصنع الماء وتصدر المعرفة.
جدة تحتضن مؤتمر وزراء التعاون الإسلامي للمياه
من 20 حتى 22 أكتوبر 2025، تفتح جدة أبوابها لوزراء وخبراء أكثر من خمسين دولة إسلامية، في الدورة الخامسة لمؤتمر منظمة التعاون الإسلامي للمياه، تحت شعار:
“من الرؤية إلى التأثير”
ثلاثة أيامٍ من الحوار والقرارات والطموحات، تُناقَش فيها قضايا الأمن المائي والتقنيات الحديثة والتحلية المستدامة وتمويل الحلول المستقبلية، في وقتٍ يشهد فيه العالم تصاعدًا في أزمات المياه.
ويُنتظر أن يصدر عن المؤتمر “إعلان جدة للأمن المائي”، الذي سيشكل خارطة طريقٍ جديدة للتعاون الإسلامي نحو إدارة أكثر وعيًا واستدامة للموارد المائية.
لماذا جدة؟ مدينة البحر والوعي
لأنها مدينة تعرف قيمة كل قطرة.
هي التي واجهت الندرة بإبداع، واحتضنت التقنية بإيمان، وكتبت تاريخ التحلية بحروفٍ من ملحٍ وصبرٍ وريادة.
اختيارها لاستضافة المؤتمر ليس مصادفة، بل تتويج لمسيرةٍ جعلت من جدة منصةً للحوار وملتقىً للخبراء وصوتًا عربيًا إسلاميًا لقضايا الماء.
جدة اليوم لا تمثل البحر فقط، بل تمثل فكرًا جديدًا في إدارة المورد الأثمن على وجه الأرض.
الأمن المائي.. قضية وجود لا رفاهية
من جدة، ينطلق نداء للعالم الإسلامي:
أن الوعي المائي لا يقل أهمية عن قطرة الماء ذاتها.
فالماء اليوم لم يعد موردًا طبيعيًا فحسب، بل عنصر أمنٍ وتنميةٍ واستقرارٍ وكرامة إنسانية.
المؤتمر يناقش محاور شاملة منها:
التحلية بالطاقة المتجددة وتقنيات الاستدامة.
الإدارة الذكية لشبكات التوزيع للحد من الفاقد.
إعادة استخدام المياه الرمادية في الزراعة والصناعة.
الشراكات التمويلية بين الدول الإسلامية.
دعم البحث العلمي وتمكين الكفاءات الشابة في علوم المياه.
من السقّا إلى صانع القرار
في رمزيةٍ مؤثرة، يجتمع في ذاكرة جدة السقّا الذي حمل الماء على كتفيه، والمهندس السعودي الذي يدير اليوم منظومات التحلية العملاقة.
كلاهما أدى الرسالة نفسها: أن الماء حياة ومسؤولية.
واليوم، تواصل جدة تلك الرسالة عبر مؤتمرٍ يُترجم رؤية السعودية 2030 إلى واقعٍ مائيٍ متوازنٍ بين التقنية والإنسان، بين التنمية والاستدامة.
جدة التي تُعلّم العالم كيف تُروى المدن
جدة اليوم لا تروي عطشها فقط، بل تسقي العالم تجربة ووعيًا.
من “الكنداسة” إلى “السقّا”، ومن قربة الماء إلى قاعات المؤتمر، تمضي المدينة بخطى ثابتة نحو مستقبلٍ يجعلها عاصمة الحوار المائي في العالم الإسلامي.
إنها جدة التي علّمت البحر الصبر، وعلّمت الأجيال أن النهضة تبدأ من قطرة… وتنتهي عند رؤية.
جدة نموذج سعودي يروى بتميز فمن الكنداسة والسقّا إلى مؤتمر التعاون الإسلامي للمياه (20–22 أكتوبر 2025) — حكاية مدينةٍ حولت الماء من حاجةٍ إلى حضارة، ومن شحٍّ إلى شراكة.
ساحل الحرف
قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [سورة الأنبياء الآية: 30]
جميع الحقوق محفوظه لصحيفة المصداقية الالكترونية 2020