||
أشواق شتيوي
ASHWAG_SHETEWI@
العدالة ليست مجرد قاعدة قانونية أو سلوك ظاهر، بل هي قيمة جوهرية تتأسس في عمق الذات، وتبدأ من حضور ذهني شامل، تتداخل فيه اليقظة الفكرية مع الحس الأخلاقي، وتتشكل فيه القناعة لا بوصفها فكرة مكتسبة من الخارج، بل كجزء من البنية الداخلية للوعي. هذا الحضور ليس حالة معرفية عابرة، بل هو يقظة مستمرة، تجعل العدالة حاضرة في كل موقف، لا كخيار بين بدائل، بل كضرورة وجودية.
لا يمكن أن يتحقق السلوك العادل بمعزل عن هذا الحضور، إذ إن العدالة لا تصدر عن خوف من القانون أو رغبة في الامتثال، بل تتجلى حين تتماهى الفكرة مع الفعل، ويغدو الإنصاف تعبيرًا صادقًا عن قناعة داخلية.
تشير أبحاث علم النفس الأخلاقي إلى أن السلوك الأخلاقي لا ينبع أساسًا من الخضوع لقواعد خارجية، بل من تمثُّل القيم الأخلاقية داخليًا.
وفي ضوء هذا التدرّج الوجودي للقيم، توضّح نظرية لورانس كولبرج أن نمو الحكم الأخلاقي يمر بمراحل، تبدأ بدافع الثواب والعقاب، لكنها لا تكتمل إلا حين يُصبح الدافع الأخلاقي ذاتيًا، وحين يلتزم الفرد بمبادئ كالعدالة وكرامة الإنسان، حتى في مواجهة القوانين أو المصالح الشخصية.
وهنا تتجلّى قوة اليقظة الذهنية، لأنها لا تكتفي بإدراك العدالة كقيمة نظرية، بل تجعلها تنبع من الداخل، من عقل مستنير، وتجربة متأملة، وعاطفة أخلاقية حية.
فكما أظهر جوناثان هايدت، الأحكام الأخلاقية لا تُبنى على التفكير العقلاني وحده، بل تتأثر بعمق بالمشاعر والانفعالات، كالشعور بالذنب عند الانحراف عن المبادئ، أو الغضب من الظلم حين يُرتكب.
وهذه المشاعر، حين تكون صادقة، لا تنشأ من تعليم خارجي فقط، بل من كون القيم قد أصبحت جزءًا من النفس، لا مجرد تعليمات تطاع.
ولذلك، فإن آلية بناء العدالة لا تقتصر على التنشئة والتعليم واللغة والموروث الثقافي، رغم أهميتها في تشكيل الإطار العام للفهم والسلوك.
فهذه الوسائط تزرع البذور، لكنها لا تضمن الثبات ما لم تُصقل القيم عبر الوعي الذاتي، والتجربة الحياتية، والعقل المستنير.
فكما تظهر نظرية التنافر المعرفي لليون فستنغر، يسعى الإنسان إلى تحقيق الانسجام بين ما يؤمن به وما يفعله. وحين يقع تعارض بين القيم والسلوك، يشعر باضطراب داخلي يدفعه إلى تعديل أحدهما طلبًا للاتساق الأخلاقي، وهو ما يُعدّ دليلاً على أن القيم حين تُتملّك بصدق، تُصبح رقيبًا داخليًا أكثر فعالية من أي سلطة خارجية.
وهنا تُبرز الباحثة كارول جيليجان بعدًا مهمًا يغيب أحيانًا عن التصورات القانونية للعدالة، حين تشير إلى أن الأخلاق لا تنبع دائمًا من القواعد المجردة، بل كثيرًا ما تنشأ من الإحساس بالمسؤولية والعلاقات الإنسانية. فالقيم كالرعاية والتعاطف ليست استجابة للقانون، بل تجلٍّ لارتباط داخلي بالآخر، ينبع من الذات لا من الإكراه.
لذلك، فإن بناء العدالة يتطلب بنية داخلية ناضجة، لا مجرد تدريب خارجي.
فالإنسان العادل هو من بلغ حالة من الاتساق النفسي والفكري، حيث تتكامل معرفته بالعالم مع إحساسه بالمسؤولية، ويصدر سلوكه عن وعي لا عن انضباط شكلي.
وهو ما يجعل العدالة فعلًا وجوديًا نابعًا من حضور ذهني ويقظة وجدانية، لا مجرد التزام مفروض.
وفي المستوى المجتمعي، لا يمكن أن تبنى العدالة الحقيقية ما لم يكن الأفراد ممتلئين بها من الداخل. فالمجتمعات العادلة لا تُنتجها القوانين وحدها، بل يصنعها أفراد تشرّبت نفوسهم القيم، فصارت جزءًا من إدراكهم للذات والعالم.
في النهاية، العدالة لا تفرض، بل تستحضر، وتعاش.
تبدأ من وعي مستنير، تتغذى من تجارب الحياة، تتشكل في عمق النفس، وتخرج إلى الواقع لا كواجب، بل كتعبير عن كينونة متزنة.
إنها، في جوهرها، ثمرة يقظة ذهنية، ونضج وجداني، وعقل ممتلئ بالمسؤولية
جميع الحقوق محفوظه لصحيفة المصداقية الالكترونية 2020