||
أشواق شتيوي
@ASHWAG_SHETEWI
في داخل كل إنسان، ومنذ أن يفتح وعيه على العالم، تستيقظ حاجة لا تُفهم بسهولة، لكنها تتكرّر بإصرار في كل تجربة وعلاقة وموقف: حاجة أن يُرى، أن يُعترف به، أن يشعر بأنه موجود بطريقة ذات معنى.
هذه الحاجة لا تنبع من ضعف أو خلل، بل من جوهر تكوينه النفسي والوجودي.
فالإنسان، بطبيعته، لا يكتفي بأن يوجد، بل يسعى إلى أن يكون حاضرًا في وعي الآخر، مؤثرًا، ذا قيمة.
وهذا هو المعنى الجوهري لما نسميه نزوعًا إلى إثبات الذات.
هذا النزوع لا يأتي من الخارج، ولا هو مكتسب كليًا من التجربة، بل ينهض من الداخل، من بنيته النفسية الأولى، من ذلك الدافع العميق الذي يدفعه لتجاوز وجوده الغريزي نحو وجود له معنى ودور.
النفس الإنسانية تميل إلى التحقّق، إلى الامتلاء، إلى التعبير عن ذاتها في العالم.
ومن هنا، فإن الرغبة في إثبات الذات ليست طارئة أو سطحية، بل هي تعبير عن حركة الحياة في داخل الإنسان، عن تلك القوة التي تدفعه إلى أن يصير ما يمكن أن يصير.
إنها محاولة لتحقيق الانسجام بين الإمكان والفعل، بين الداخل والخارج، بين الكينونة والتجلّي.
لكن ما يبدأ كدافع أصيل، يتحوّل في كثير من الأحيان إلى عبء. لا بسبب الدافع ذاته، بل بسبب الكيفية التي يُدار بها. حين يُربّى الإنسان في بيئة لا تمنحه اعترافًا صحيًا بوجوده، أو تُقيّمه بمعايير سطحية أو مجتزأة، فإن نزوعه إلى التحقق يتشوّه.
يصبح إثبات الذات مقترنًا بالصورة بدل الجوهر، بالمقارنة بدل الإنجاز، بالصوت بدل المعنى. ويجد نفسه محاصرًا في دائرة لا تنتهي من محاولات الإقناع، لا لذاته فقط، بل للعالم كله، بأنه يستحق أن يُؤخذ على محمل الجد.
هذا الانزلاق من حاجة تكوينية إلى سلوك استعراضي ليس إلا نتيجة مباشرة لتشوّه البيئة التي لم تُعلّم الإنسان كيف يحقّق ذاته بصدق واتّزان.
والمجتمع، بوصفه الحاضنة الكبرى للذات، يلعب دورًا حاسمًا في توجيه هذا النزوع.
فحين يكون المجتمع قائمًا على التنافس الرمزي، أو على معايير استهلاكية في التقييم، تتحوّل الرغبة في إثبات الذات من مشروع تحقّق داخلي إلى سباق خارجي على الاعتراف. يغدو الإنسان مشغولًا لا بما هو عليه، بل بما يبدو عليه.
ويغرق في محاولات مستمرة لبناء صورة تُعجب الآخرين، حتى وإن لم تكن تمثّله. هكذا تتكلّس الذات خلف أقنعة، وتتآكل تدريجيًا تحت ضغط التوقّعات، وتتحوّل من كيان حي إلى عرض متواصل يبحث عن إعجاب عابر.
أما المفارقة المؤلمة، فتكمن حين يبدأ الإنسان بفقدان صلته الحقيقية بنفسه. لا يعود يدري: هل يسعى حقًا إلى تحقيق ذاته، أم إلى بناء صورة تُرضي الآخرين وتُخدّر شعوره العميق بالنقص؟ ومن هنا، يتحوّل النزوع إلى إثبات الذات من قلق خلّاق إلى اضطراب منهِك، حين يُدار خارج اتّزانه الطبيعي.
وتولد في النفس حالة مستمرة من المقارنة، من التوتر، من الإحساس بأن هناك دائمًا من هو أكثر أو أفضل، ما يجعل القيمة الذاتية معلقة في الخارج، مرهونة بردود الفعل، لا نابعة من الداخل.
الخروج من هذا التشوّه لا يكون بإنكار الحاجة إلى إثبات الذات، بل بالعودة إلى معناها الأول، إلى مصدرها العميق: أن إثبات الذات ليس إعلانًا أمام الآخر بقدر ما هو اعتراف داخلي بالقيمة.
أن يتحوّل الإنسان من الانشغال بما يراه الآخرون فيه، إلى الانشغال بما يراه هو في نفسه. أن يبني ذاته على جوهر متماسك، لا على مرايا مكسورة.
وحده الإنسان الذي يعرف نفسه، ويقبلها، ويسعى إلى تطويرها بإخلاص، هو القادر على أن يُثبت ذاته دون أن ينزلق إلى تزييفها.
في النهاية، تظل الذات سؤالًا مفتوحًا، ومشروعًا مستمرًا. وكل محاولة صادقة لإثباتها، هي في جوهرها محاولة لفهمها.
الإنسان لا يحتاج يخمد فراغه بالصخب ليثبت وجوده، بل لأن يصمت أحيانًا ليسمع صوته الداخلي ذاك الصوت الذي يقول له: أنت لست ما يقال عنك، بل ما تختار أن تكونه، حين تصدق مع نفسك..
جميع الحقوق محفوظه لصحيفة المصداقية الالكترونية 2020