||
أشواق شتيوي
@ASHWAG_SHETEWI
لطالما كانت الطبيعة الإنسانية موضوعًا مركزيًا في العلوم الإنسانية ، حيث تتجاوز حدود البيولوجيا لتصبح رحلة معقدة تبحث عن معنى أعمق.
الإنسان كائن واعٍ يعيش في صراع مستمر مع ذاته ومحيطه، ساعيًا لفهم هويته ومكانه في عالم دائم التغير.
هذا الصراع يتضمن تناقضات بين الرغبة في الثبات والتغيير، بين الحاجة إلى الاستقرار والسعي المستمر لاكتشاف الذات.
ومن خلال هذا الصراع، تتشكل الهوية الإنسانية كعملية ديناميكية تتحرك بين هذه التناقضات، حيث تلعب التجارب الحياتية دورًا أساسيًا في إعادة تشكيلها.
الهوية الإنسانية: بين الثبات الجوهر والمرونة والتغيير المتذبذب
الهوية الإنسانية ليست حالة ثابتة، بل هي عملية مستمرة من التشكل والنمو.
تجمع هذه الهوية بين القيم الراسخة والمرونة الفكرية، حيث يسعى الفرد للحفاظ على جوهره الداخلي رغم التحولات الخارجية.
في هذا الصدد، يشير إريك إريكسون إلى مرحلة الهوية مقابل ارتباك الدور، التي يتعين فيها على الفرد تحقيق التوازن بين الحفاظ على هوية متماسكة والتكيف مع المواقف المتغيرة.
على سبيل المثال، قد يواجه شخص أزمة اقتصادية تدفعه لتغيير طرقه في تحقيق أهدافه، ولكن دون المساس بالقيم الأساسية التي تشكل جوهر هويته.
في هذه الحالة، قد يختار هذا الفرد أن يظل متمسكًا بمبادئه الأساسية مثل النزاهة والشفافية في التعامل مع الآخرين، رغم الضغوطات الاقتصادية التي قد تدفع البعض إلى اللجوء لأساليب ملتوية أو غير شريفة.
تمثل النزاهة قوة داخلية تحافظ على هوية الفرد، وتساعده على التكيف مع التحديات دون التفريط في قيمه، مما يساهم في بناء هوية قوية ومستقرة رغم الأزمات الاقتصادية.
ومع ذلك، قد يمر البعض بتذبذب مستمر في هويتهم، حيث تتغير هوياتهم بسرعة بسبب تأثير التجارب والمواقف الحياتية.
يصف زيجمونت باومان هذا النوع من الهوية في إطار مفهوم “الحداثة السائلة”، حيث يعيش الفرد في عالم تفتقد فيه جذوره للثبات، مما يجبره على التكيف الدائم مع التغيرات دون استقرار دائم.
الاضطرابات النفسية: عدسة جديدة لفهم الهوية
عندما تدخل الأزمات النفسية في معادلة الهوية، تصبح عاملاً محوريًا في إعادة تشكيل الذات. في بعض الحالات، قد تؤدي هذه الاضطرابات إلى تفكيك الهوية وتشويهها، بينما في حالات أخرى قد تكون فرصة لإعادة البناء والنمو.
فعلى سبيل المثال، يعكس اضطراب الشخصية الحدية صراعًا داخليًا بين الثبات والانهيار، حيث يعاني الفرد من تقلبات شديدة في عواطفه وهويته، مما يجعله غير قادر على تنظيم رؤيته لذاته والعالم من حوله.
هذا الصراع النفسي يؤثر بشكل كبير على تفاعلاته مع الآخرين، ويؤدي إلى علاقات مشوهة وغير مستقرة.
أما اضطراب الشخصية النرجسية فيكشف عن هوية مبنية على الثقة الظاهرية بالنفس، ولكن خلف هذه الثقة يكمن شعور عميق بعدم الأمان.
هذا يدفع الفرد إلى استغلال الآخرين والتلاعب بهم لتحقيق الإعجاب والتقدير، مما يعزز الصورة الزائفة التي يروج لها عن نفسه.
من جهة أخرى، يظهر السلوك السادي المعادي للمجتمع كاستجابة نفسية قائمة على تحقيق الرضا الداخلي من خلال السيطرة على الآخرين أو التسبب لهم بالألم.
هذا النمط يحوّل العلاقات إلى بيئات غير آمنة، مشبعة بمشاعر الخوف والقهر، حيث تُبنى الهوية على فرض القوة بدلاً من البحث عن التوازن الداخلي.
التطرف الفكري وعلاقته بالاضطرابات النفسية
قد يساهم التطرف الفكري في بعض الحالات في تدهور الهوية وتفككها، حيث قد يلجأ الأفراد الذين يعانون من اضطرابات نفسية مثل الحدية والنرجسية إلى تبني أفكار متطرفة لتوفير إحساس بالاستقرار العاطفي والذاتي.
في حالة اضطراب الشخصية الحدية، على سبيل المثال، قد يشعر الفرد بتقلبات شديدة في هويته، وقد يتجه نحو الفكر المتطرف كوسيلة للبحث عن إجابات ثابتة دون أن يعكف على إعمال عقله أو البحث والتحقق من الحقائق.
هذا الفكر قد يوفر له شعورًا بالانتماء والوضوح وسط الفوضى العاطفية التي يعاني منها.
أما اضطراب الشخصية النرجسية فقد يدفع الأفراد إلى تبني أيديولوجيات متطرفة لا لتحقيق الذات فحسب، بل لتعزيز شعورهم بالتفوق والسيطرة على الآخرين.
الفكر المتطرف قد يُساعد هؤلاء الأشخاص في تعزيز صورتهم الذاتية، مما يعزز من حاجتهم المستمرة للاعتراف والإعجاب.
أما في حالة اضطراب الشخصية السادية، يمكن أن يتحول الفكر المتطرف إلى أداة ل تسويغ السلوكيات العنيفة أو المسيطرة على الآخرين.
فالتطرف الفكري قد يصبح مبررًا لتكريس القوة، حيث يمكن للفرد أن يرى في الأيديولوجيات المتطرفة وسيلة لتأكيد سيطرته على الآخرين بطريقة تضمن له الإشباع العاطفي.
الأزمات النفسية وتأثيرها على الإدراك:
التطرف الفكري ليس مجرد تبني لأيديولوجية شديدة، بل هو استجابة نفسية قد تكون ناتجة عن أزمة نفسية عميقة أو صراع داخلي في الهوية.
بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من القلق أو الاكتئاب، يمكن أن يوفر الفكر المتطرف شعورًا باليقين والأمان في عالم يبدو غير مستقر بالنسبة لهم.
من خلال هذه الأيديولوجيات، يجدون تفسيرًا جاهزًا لوجودهم ولعلاقاتهم بالعالم.
أما الاكتئاب، فيُمثل انهيارًا نفسيًا يعيق الشخص عن إيجاد معنى لحياته، مما يؤدي إلى تفكك هويته وشعوره بالفراغ العاطفي والفكري. كما أشار فيكتور فرانكل في كتابه “العلاج بالمعنى”، فإن فقدان الهدف يُعد جوهر الاكتئاب، حيث يسهم هذا الانهيار في تعطيل المشاعر الإيجابية والانتماء الذاتي.
في حالات الذهان، حيث يحدث انفصال عن الواقع، يواجه الفرد عالمًا مبنيًا على الهلوسات والأوهام. في هذا السياق، تتفكك الهوية بشكل عميق، ويصبح الشخص غير قادر على التمييز بين ذاته والعالم الخارجي. قد تُبنى هويات جديدة مشوهة في ظل هذه التصورات المرضية، مما يضع الشخص في حالة من العزلة والضبابية.
من الأزمات إلى النمو: إعادة بناء الهوية
على الرغم من أن الأزمات النفسية قد تؤدي إلى انهيار الهوية في بعض الحالات، إلا أنها قد تمثل أيضًا نقطة تحول نحو إعادة اكتشاف الذات والنمو النفسي.
يشير مفهوم النمو بعد الصدمة إلى أن الصدمات النفسية قد تفتح آفاقًا جديدة للفرد لفهم ذاته بشكل أعمق. على سبيل المثال، الشخص الذي يتعافى من الاكتئاب قد يعيد تعريف قيمه ويكتشف معنى جديدًا لحياته، مما يمنحه هوية أقوى وأكثر مرونة.
الهوية كرحلة مستمرة
تظل الهوية الإنسانية رحلة معقدة ومتواصلة، تجمع بين الرغبة في الاستقرار والقدرة على التكيف مع التغيرات.
ورغم أن الاضطرابات النفسية قد تشكل تحديات كبيرة، إلا أنها قد تحمل في طياتها فرصة للتأمل والنمو. فالأزمات ليست نهاية المطاف، بل يمكن أن تكون نقطة انطلاق نحو بناء هوية أعمق وأكثر نضجًا.
جميع الحقوق محفوظه لصحيفة المصداقية الالكترونية 2020