||

الذاكرة التحاملية ودورها في صناعة الهويات الاستقطابية

27 ديسمبر، 2024

أشواق شتيوي 

‏⁦‪@ASHWAG_SHETEWI‬⁩

 

في إطار التحليل الفكري للتكوينات الاجتماعية، تبرز الذاكرة التحاملية كآلية نفسية ومعرفية تهيمن على الأفراد والجماعات، فتؤسس لتصورات منحازة وغير عادلة تجاه الآخر. 

فهي ليست مجرد تراكم لحوادث ماضية، بل أداة انتقائية تحدد المواقف والرؤى التي تدعم صورة الذات المظلومة والآخر المعتدي، 

مما يعمق الهوة بين الجماعات ويفتح المجال لتوليد العداءات.

 

تصبح الذاكرة هنا أداة لصناعة الهويات الجماعية المعزولة، حيث يُقسَّم المجتمع إلى ثنائيات متعارضة: نحن الخير/هم الشر، نحن الحقيقة/هم الزيف. 

وهذا يُسهم في تعزيز الانغلاق الفكري والتباين الاجتماعي، ويحول الاختلاف إلى تهديد وجودي يهدد الوحدة المجتمعية.

 

الذاكرة التحاملية ليست بريئة أو محايدة؛ فهي مشروطة بانتقائية تهدف إلى إنتاج شعور مشترك بالهوية الجماعية، لكنها تستند إلى صور نمطية ووقائع مشوَّهة أو مبالغ فيها. 

 

تتحول الذاكرة من استرجاع فردي إلى تاريخ جماعي مشوَّه يتوارثه المجتمع، ويُفعّل في لحظات الأزمات لتبرير المواقف العدائية أو تعزيز التحيزات. 

كما يتم التلاعب النفسي من خلال استغلال هذه اللحظات لتضخيم الصور النمطية والتحريفات التي تعمق الانقسامات الاجتماعية وتغذي العداء.

 

يؤدي ذلك إلى صناعة مجتمعات استقطابية، حيث تُفعَّل العواطف والميول اللاعقلانية لتحويل التباينات الطبيعية إلى صراعات وجودية، ويغيب الحوار العقلاني. 

في هذا الواقع الاجتماعي المضطرب، تصبح الخلافات بيئة حاضنة للاستقطاب، حيث يتم تضخيم التناقضات بين الفئات عبر أدوات متعددة، بما فيها السرديات القومية والعقائدية والعرقية التي تُعيد إنتاج الحكايات المؤسسة للضحية والجلاد.

 

تُستغل كذلك وسائل الإعلام والتكنولوجيا في تعميق هذه الفجوات الاجتماعية، حيث تنشأ غرف صدى رقمية تؤكد للمستخدم ما يريد سماعه، مما يعزز الاستقطاب ويغذي الانقسامات.

 

الاستقطاب المجتمعي ليس فقط نتيجة ظروف آنية، بل هو امتداد لبنى عقلية ونفسية راسخة، تحركها الأهواء والذاكرة الجمعية المتحيزة. 

في هذا المضمون، يتماهى الفرد مع جماعته ويجد في معاداة الآخر مبررًا لهويته ووجوده. 

لذلك، يتعين علينا فهم هذه الديناميكيات بشكل عميق، لأن التغيير يتطلب وعيًا نقديًا مستمرًا وطويل الأمد.

 

تفكيك الذاكرة التحاملية يتطلب وعيًا نقديًا يتناول طبيعة تشكُّل هذه الذاكرة وآليات تأثيرها. 

التغيير لا يتحقق عبر العنف المضاد أو الإنكار المباشر، بل من خلال المراجعة التاريخية والموضوعية للأحداث. 

يحتاج المجتمع إلى تفكيك الخطابات السائدة، وتحليل التاريخ من زوايا متعددة بعيدًا عن الأحادية. 

من خلال هذا الفحص العميق، يمكن إزالة الطابع الأحادي لهذه الذاكرة وفتح أفق لتصورات جديدة قائمة على الاحترام المتبادل والتفاهم.

 

تعزيز الوعي الأخلاقي يعد خطوة حاسمة في هذا التحول، إذ تشكل الفلسفة الأخلاقية التي تدعو إلى فهم الآخر والاعتراف به ركيزة أساسية لإعادة بناء العلاقات الإنسانية على أساس الحوار. 

 

إحياء القيم المشتركة بين الأفراد يعد جزءًا حيويًا من عملية التحول الاجتماعي. 

البحث عن القواسم الإنسانية المشتركة يمكن أن يتجاوز الخلافات السطحية والتاريخية، ويعزز التعايش السلمي بين المختلفين.

 

التعليم النقدي يشكل حجر الزاوية في هذه العملية. 

من خلال إعادة هيكلة المناهج التربوية لتكريس فكر جدلي يرفض التلقين ويشجع على النقد والحوار، يصبح التعليم أداة أساسية لتحفيز التفكير النقدي المستمر في مواجهة الذاكرة التحاملية والعقلية المغلقة.

 

إن تحوّل المجتمعات من حالتها الاستقطابية إلى مجتمعات عقلانية قادرة على التعايش يتطلب نزع القداسة عن الذاكرة التحاملية وتحرير الفرد من خطاب الضحية المستدامة. 

فقط من خلال الوعي النقدي، كفعل فكري واجتماعي، يمكننا أن نفتح أفقًا جديدًا للمجتمع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

رأي المصداقية

1 يناير، 2021
رآي المصداقية

  كان حلما يراودنا منذ...

كتّاب المصداقية

23 أكتوبر، 2025
نصفك الأسود

ضيف الله نافع الحربي  ما...

15 أكتوبر، 2025
من جدة إلى كأس العالم

ضيف الله نافع الحربي  من...

9 أكتوبر، 2025
أخطر العقود “أنا وأنت معًا”

ضيف الله نافع الحربي  رابط...

2 أكتوبر، 2025
اقرأ لتكبر

ضيف الله نافع الحربي  لا...

أوراق أدبية