||

بين الداخل والخارج: التشويه الإدراكي والتزامن بين النفس والواقع

25 نوفمبر، 2024

أشواق شتيوي 

‏ASHWAG_SHETEWI@

منذ اللحظة الأولى للوعي، يواجه الإنسان نقطة تماس معقدة بين إدراكه الداخلي والواقع الخارجي. 

ما نراه أو نسمعه أو نشعر به ليس مجرد انعكاس دقيق للحقيقة، 

بل هو نتاج تفاعل مستمر بين الحواس والعقل.

 

فالإدراك هنا هو عملية عقلية معقدة لا تقتصر على مجرد استقبال المعلومات من الواقع، بل هي عملية تفسيرية تُبنى على تفاعل العقل مع الحواس، والتجارب السابقة، والمشاعر. حينما نواجه الواقع، لا نتلقاه كما هو بل نُعيد تشكيله في أذهاننا استنادًا إلى مفاهيمنا الداخلية، مثل الذاكرة والتوقعات.

 

الحواس، التي تعتبر البوابات التي تربطنا بالعالم الخارجي، ليست أدوات محايدة كما قد يُظن. 

العين لا ترى كل التفاصيل، والأذن لا تلتقط كل الأصوات؛ بل يعمل الدماغ على ملء الفراغات الناقصة استنادًا إلى ما يعرفه مسبقًا. 

هذه العملية، المعروفة بالإكمال التلقائي أو التنبؤ الإدراكي، تجعل الإدراك ليس مجرد تلقي للواقع، بل إعادة تشكيله بناءً على أنماط داخلية تشكلت عبر الزمن من خلال التجارب والذكريات.

 

لكن هذه الصياغة الإدراكية ليست مجرد عملية عقلية بحتة، بل تتأثر بالنفس التي تحمل في داخلها إرثًا من الذكريات والعواطف والرغبات . 

النفس ليست مجرد مراقب محايد للواقع؛ إنها تشاركه وتعيد تشكيله بطرق دقيقة وعميقة. 

مخاوف غير مدركة، مثل الخوف من الفقد أو الوحدة، قد تجعل ابتسامة عابرة تبدو وكأنها شفقة، بينما الرغبة في الكمال قد تحوّل ملاحظة بسيطة إلى انتقاد جارح. 

بهذه الطريقة، تُظهر النفس قدرتها على إسقاط الداخل على الخارج، مما يجعل الخط الفاصل بين الحقيقة والوهم متداخلًا بطريقة يصعب معها التمييز بينهما.

 

العلوم العصبية تؤكد هذه الفكرة، حيث تشير الدراسات الحديثة إلى أن الدماغ ليس مجرد مستقبل سلبي للمعلومات الحسية. 

بل يشبه مخرجًا سينمائيًا، يعيد كتابة القصة التي يلتقطها من العالم وفقًا لسيناريوهات مسبقة مخزَّنة في داخله. 

هذه النماذج الإدراكية، أو العدسات التي من خلالها نرى العالم، قد تكون واضحة في بعض الأحيان أو مشوشة بفعل التجارب السلبية أو الانحيازات العاطفية. 

على سبيل المثال، نظرية التحيز التأكيدي توضح كيف يميل الإنسان إلى تأكيد معتقداته السابقة بدلًا من تحديها، مما يحدّ من قدرة إدراكه على اكتشاف أبعاد جديدة للواقع.

 

في هذا التفاعل المستمر بين النفس والواقع، يظهر التشويه كجزء لا يمكن فصله عن طبيعة الإدراك البشري. 

ولكنه ليس مجرد عائق، بل يمكن أن يكون أداة تكيف نفسية. 

النفس تعيد تشكيل الواقع لتتناسب مع احتياجاتها ورغباتها، وكأنها تسعى لجعل العالم الخارجي متماشيًا مع عالمها الداخلي. 

إذًا، السؤال يظل قائمًا: هل هذا التشويه عائق يجب تجاوزه؟ أم أنه ضرورة نفسية تساهم في التكيف مع عالم معقد ومتغير؟

 

هنا يظهر مفهوم التزامن بين النفس والواقع. 

ما نعيشه داخليًا يلون الطريقة التي نرى بها العالم، بينما يعيد الواقع أيضًا تشكيل تجاربنا الداخلية. 

هذه العلاقة التفاعلية تعني أن واقعنا ليس مجرد انعكاس لما يحدث من حولنا، بل هو نتيجة لتفاعل مستمر بين معتقداتنا وتجاربنا الشخصية.

 

عندما يصبح الإنسان واعيًا لهذا التزامن، يدرك أن ما يراه ليس الحقيقة المطلقة بل هو انعكاس لتوقعاته ومخاوفه. 

في هذه اللحظة، يصبح أكثر قدرة على التعامل مع الواقع بوعي أكبر. 

التأمل الواعي، الذي يُدرِّب العقل على ملاحظة الأفكار دون التماهي معها، هو إحدى الطرق التي تساعد على تقليص تأثير هذا التشويه. 

كما أن مراجعة المعتقدات القديمة وفهم تأثير الماضي على الحاضر يمكن أن يساعدا في بناء عدسات أكثر شفافية لرؤية العالم.

 

قد تكون الحقيقة المطلقة بعيدة عن إدراك الإنسان المحدود، لكن فهم العلاقة المتبادلة بين النفس والواقع يعمق تجربتنا الوجودية. 

فهذه العلاقة ليست ثابتة، بل هي نشطة ومتغيرة، تمامًا مثل التزامن بين داخل الإنسان وخارجه.

 

 قد لا يكون الهدف هو الوصول إلى الحقيقة المطلقة. 

ربما تكمن الغاية في فهم هذه الجدلية المستمرة بين النفس والواقع. 

هذا الحوار بين الداخل والخارج هو ما يجعلنا بشرًا، ويسعى كل منا لفهم عالمه الخاص، الذي لا نراه إلا من خلال عدسات أنفسنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

رأي المصداقية

1 يناير، 2021
رآي المصداقية

  كان حلما يراودنا منذ...

كتّاب المصداقية

23 أكتوبر، 2025
نصفك الأسود

ضيف الله نافع الحربي  ما...

15 أكتوبر، 2025
من جدة إلى كأس العالم

ضيف الله نافع الحربي  من...

9 أكتوبر، 2025
أخطر العقود “أنا وأنت معًا”

ضيف الله نافع الحربي  رابط...

2 أكتوبر، 2025
اقرأ لتكبر

ضيف الله نافع الحربي  لا...

أوراق أدبية