||
الدكتورة خديجة الصبَّان :
قُـرَّاءنا الكرام، هذه وقفتنا الثانية مع ما جاء في ثنايا تراث العربية، من وصايا بحفظ اللسان، وصونه عن الخوض فيما يُوقِعُ في المحاذير والآثام، كما وعدنا في اللقاء السابق الذي خصصناه لوصايا الشعراء. وستكون مع مجموعة من الأقوال المأثورة والحِكَم، تتناول أثر الكلام، حَسَنًا وسَيِّئًا في المتكلِّم والمتلقِّين.
ونبدأ بقولين منسوبين لعليِّ بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ ” إذا تَمَّ العقلُ نَقَصَ الكلامُ “، وقوله: “بكثرة الصَّمتِ تكون الهَيْبَة”. فكفى بالمرء حِرْصًا على الإقلال من كلامه، علمه بدلالته على تمام عقله، وبكون ذلك الإقلال مصدرًا من مصادر هيبة النَّاس إيَّاه.
ذلك من نتائج الصمت على الفرد، ومن نتائجه، ونتائج الكلام على الجماعة، ما جاء في الحِكمة المنسوبة لأحد الأعراب، وهي قوله: ” رُبَّ مَنْطِقٍ صَدَعَ جَمْعًا، وسُكُوتٍ شَعَبَ صَدْعًا”. الصَّدع: الشَّقُّ والتَّفريق الشديد. والشَّعْب من الأضداد، ويفيدُ هنا: اللَّمُّ والإصلاح. والحكمة تُرينا الجَمَعَ يتفَرَّقُ شَذَرَ مّذَر بتأثير كلمة، وبمقابلِ ذلك يُلَمُّ الشَّمْلُ ويُرْأبُ الصَّدع بالسُّكُوتُ إحجامًا عن مقابلة السَّفَهِ بمثله. و”رُبَّ” هنا تُفيدُ التَّكْثِير، أيْ إنَّ ذلك أمرٌ يجري مجرى القاعدة المُطَّرِدَة. وكان يقال: “مِنَ السُّكوتِ ما هو أبلغُ من الكلام؛ لأنَّ السَّفِيه إذا سُكِـتَ عنه كان في اغْتِمام”.
وقدرة المرء على السيطرة على كلامه، كانت من أسباب السِّيادة (القيادة، بالتعبير المعاصر) عند العرب؛ فقد روي أنَّ رجُلًا مِنْ بني تميم سُئِلَ:” بِمَ سادَكم الأحنفُ؟! فَوَ اللهِ ما كان بأكبرِكم سِنًّا، ولا بأكثرِكم مالًا؟ فقال: بقوة سلطانه على لسانه”. والأحنف، هو الأحنف بن قيس كان سيد قبيلة بني تميم، يضرب به المَثَل في الحِلْم عند العرب.
وكما كان لهم ذلك النَّهي المتراكِم عن كثرة الكلام؛ لِما يتسبَّبُ فيه مِنْ مَضارَّ وآثام، كان لهم نهيٌ عن أنْ يحُدِّثَ المرءُ بكلَّ ما يَسمع، وعَـدُّوا مَنْ يفعل ذلك أحمَقَ، بل في أعلى درجات الحُمْق، فقد جاء عنهم: “ لا تُحدِّثِ الناس بكلِّ ما تسمع؛ فكفى بذلك خَرَقًا”. وذلك ـ ويا للأسف ـ أصبحَ من سِمات التداول والتَّناول في مجموعات (الواتس) وغيرها. ومن تلك السِّمات فيها وفي غيرها، الصيرورة إلى البَذِيء الفاحش من الكلام، ولم يَفُتْ أسلافنا التَّحذير من الوقوع فيه، حيث جاء عنهم: “لا تُسِيءِ اللفظَ، وإنْ ضاقَ عليك الجواب”. ويكفي في التنفير منه، قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ” ليسَ المؤمنُ بطعَّانٍ ولا لعَّانٍ ولا فاحِشٍ ولا بَذِيءٍ”. وزيادة الباء في خبر “ليس”، تُفيدُ التَّشديد في النفي المراد به النَّهي.
وبعد، فما أحرانا ـ رُعاةً لأبنائنا ومسؤولين أمام الله عن تنشئتهم ـ أنْ نتعهَّدهم منذ نعومة أظفارهم، بما يجعلهم يتشرَّبون القِيم والمكارم التي جاء هذا الدِّين ليُتمِّمها، كما جاء في الحديث الشريف:“ إنَّما بُعثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ”.
جميع الحقوق محفوظه لصحيفة المصداقية الالكترونية 2020