||

الأدب وشغف البدايات

6 يناير، 2021

الدكتور عبد الفتاح شهيد

يحتفي الأدب بالبدايات، ويتوجس من النهايات؛ فيستبشر بكل ولادة جديدة ويأْمل خلالها حياة مغايرة متجددة. فتبدو البدايات مشرقة إشراقة الصباح، ومنيرة نور النهار؛ بينما تتمثل النهايات، مهما كانت سعيدة، قاتمة مُعتمة مقلقة. فالولادة بداية خلّاقة، والموت نهاية مريبة؛ وسحر البدايات لا يبطل، وشغف البدايات لا يأفل. الرواية الأولى، القصيدة الأولى، الجملة الأولى؛ بدايات يحتفي بها الأدب، لأن في الاحتفاء بالبدايات احتفاء بالدفق والحياة والخلود، وبصفاء الفتوة وبهاء الشباب، وما من شيء جميل يحدث إلا وله نواة في بداياته.
فقد كان “نبوغ شاعر” حدثا كرنفاليا في المجتمع القبلي العربي، تُصنع خلاله الأطعمة، وتلعب النساء بالمزاهر؛ وفي القصيدة العربية ظل “النّسيب هو المقدم”، ونشدوا براعة المطلع، وحسن الابتداء، وجمال الاستهلال، في عذوبة لفظ وحسن سبك وصحة معنى. بينما يطوون الخواتيم طيا ويملؤونها دعاء واستجداء واستنجازا. كما يفرغ الشعراء المبدعون مجهودهم في بناء المدائح والغزليات، لأن المدح قريب من النفوس والغزل لائط بالقلوب، ويزورّون عن المرثيات، إلا وفاء، لأنها معجونة بطعم الألم والموت والذكرى.
واشتهر في ماضي الأدب وحاضره البيت الأول، والديوان الأول، والقصيدة الأولى، والرواية الأولى، والقصة الأولى، والجملة الأولى؛ تلك الخطوات المرتبكة في عوالم الإبداع المدهشة؛ فقد قال حسان بن ثابت جذلا: “قال ابني الشعر ورب الكعبة”، لما رأى قوة طبع ابنه ودقة تشبيهه في أول صورة شعرية ينسجها؛ وتهتم الهيئات الثقافية اليوم بالديوان الأول والرواية الأولى والقصة الأولى..وتستقبلها وسائل الإعلام بالكثير من الاحتفاء والانتشاء..
غير أن النقاد لم ينشرحوا لأسئلة البدايات انشراح المبدعين، فاختلفوا، بصخب أحيانا، في أول من قصّد القصائد في الشعر العربي بين المهلهل والأفوه وابن حذام، وفي أول من نسج الموشح بين محمد حمود ومقدم بن معافر، وفي أول من كتب شعر التفعيلة بين نازك والسياب؛ وفي أول “رواية” عربية بين “زينب” هيكل و”حسن عواقب” زينب… كما شكلت البدايات مبحثا رئيسا في مشروع “جيرار جينيت” النقدي حول العتبات؛ وكانت مدار العديد من الدراسات النقدية سُوّدت فيها صفحات طويلة.
وعلى جمال “كلام البدايات”؛ فقد تكون البدايات مفجعة مقلقة أحيانا، تشكل نهاية حقيقية للمبدع، مُرهقة له ولمساره الإبداعي، حين يصاب بمتلازمة الديوان الأول أوالرواية الأولى أوالكتاب الأول، فيمكث لاهيا ضائعا في دوامة البدايات. كما قد يقنع آخرون بوهم الريادة فيملأ عليهم مساحات الاستمرارية والزيادة؛ كما في “زينب” و”تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق”… وفي أفضل الأحوال قد يشتهر العمل الإبداعي الأول أكثر من غيره، فلا يملك المبدع تجاوزه أو حتى التخلص من صدى انتشاره؛ كما في “دون كيشوت” سيرفانتيس و”موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح…

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

رأي المصداقية

1 يناير، 2021
رآي المصداقية

  كان حلما يراودنا منذ...

كتّاب المصداقية

6 نوفمبر، 2025
احذروا دُعاة الاِنطفاء

ضيف الله نافع الحربي  سيأتي...

30 أكتوبر، 2025
الأمراض النفسية غير المرئية

ضيف الله نافع الحربي  الإنسان...

23 أكتوبر، 2025
نصفك الأسود

ضيف الله نافع الحربي  ما...

15 أكتوبر، 2025
من جدة إلى كأس العالم

ضيف الله نافع الحربي  من...

أوراق أدبية